كلام أبو الريحان البيروني في الصوفية
والآن سأستعرض -إن شاء الله- بعضَ الكتب التي تدل على أصل التصوف، مثل كتاب البيروني تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، الكتاب ألَّفه أبو الريحان البيروني، وهو ليس مِن أئمَّة أهل السنة والجماعة، وإنما هو رجلٌ، مسلمٌ، مؤرِّخٌ، تستطيع أن تقول -بالأحرى- إنه جغرافيٌّ، ومتكلمٌ، ومتفلسفٌ، ذهب إلى الهند يبحث عن أديانها، وعقائدها، ويكتب عن جغرافيتها، وأرضها، وعلومها.
هذا الرجل ألَّف الكتاب، وذكر فيه حقائق لا يمكن أن يُتهم بأنَّه تواطأ فيها مع أهل السنة والجماعة.
فمثلاً: يقول في صفحة (24) من هذا الكتاب '' ومنهم مَن كان يرى الوجودَ الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليه، وأنَّ ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره، فوجوده كالخيال غير حقٍّ، والحقُّ هو الواحد الأول فقط، وهذا رأي السوفية - كتبها بالسين - وهم الحكماء، فإنَّ سوف باليونانية: [الحكمة] وبها سمي الفيلسوف: بيلاسوفا، أي: محب الحكمة، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريبٍ مِن رأيهم -أي: رأي حكماء الهند -سُمُّوا باسمهم- أي: الصوفية- ولم يَعرف اللقبَ بعضُهم فنسبهم للتوكل إلى الصُفَّة وأنَّهم أصحابها في عصر النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ صُحِّفَ بعد ذلك، فصُيِّر مِن صوف التيوس...! إلخ ''.
ويقول بعد ذلك: '' إنَّ المنصرف بكليته إلى العلة الأولى متشبهاً بها على غاية إمكانه: يتحد بها عند ترك الوسائط، وخلع العلائق، والعوائق ''.
ويقول -في هذه الوحدة "وحدة الوجود"-: '' وهذه آراء يذهب إليها الصوفية لتشابه الموضوع ''.
يتكلم عن ديانات الهند، وعن فلاسفة الهند -هؤلاء الملاحدة- ثم يذكر أنَّ الصوفية يذهبون إليها لتشابه الموضوع.
فالرجل يقول: إن الصوفية هم حكماء الهند، وأنَّ اسمهم هو "السوفية"، وأنَّ ما يُطلق عليهم مِن الأسماء، أو ما حدث للاسم مِن التصحيف - فقيل: إنَّه مِن الصوف أو غير ذلك - هذا ليس له حقيقة.
والقشيري ذكر في كتابه الرسالة '' أنه ليس لهذا الاسم أصل في اللغة العربية '' -و القشيري مِن أئمَّة الصوفية له كتاب الرسالة- وهو صادقٌ في ذلك.
ويقول صاحب دائرة المعارف الإسلامية -كما سمَّاها المستشرقون- وهي دائرة معارف استشراقية: ذكروا أنَّ كلمة "الثيوصوفيا" -الكلمة اليونانيَّة- يقولون: '' هذه هي الأصل كما ينقل كاتبها ماسينيون عن عدد المستشرقين؛ بأنَّ أصل التصوف: هو مشتق مِن الثيوصوفية '' وهذه الثيوصوفية كما يذكر -أيضاً- عبد الرحمن بدوي، وينقل عن مستشرق ألماني فول هومر قوله: '' إن هناك علاقة بين الصوفية، وبين الحكماء العراة مِن الهنود '' ويكتب باللغة الإنجليزية جانيوسوفستز و"سوفستز" يعني: الصوفيين، هؤلاء إذا ربطنا هذه مع الثيوصوفية -أي: الصوفية- التي نقول "الثيو" معناها في لغتهم: الله عز وجل، فمثلاً الحكم الثيوقراطي يعنى: الحكم الإلهي، والثيوصوفية أي: عشاق الله، أو محبو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الفيلسوفي هذا: عاشق الحكمة "فيلا" معناها: حكمة، أو محب الحكمة.
عاشق الله -كما يدَّعون، وكما يزعمون- يسمَّى: الصوفي.
إذاً الصوفية نستطيع أن نقول: إننا الآن أمام أساس -وسيأتي عرض آخر يبين هذه القضية- هذه الكلمة وأنَّه غير إسلامي أصلاً، وغير عربي أصلاً، وإنَّما هو دينٌ آخر.
ولنرجع إلى كتاب البيروني؛ يقول في صفحة [51]: '' إذا كانت النَّفس مرتبطةً في هذا العالم... والخلاص -خلاص النفس- مِن العالم... وانقطاعها عنه،... كيف أنَّ الهنود يحاولون أن ينقطعوا عن الدنيا، وأن يتحدوا بالجوهر الأسمى -وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- '' يتحدث عن هذا الموضوع بكلام فيه صعوبة.
إنَّما المقصود من ذلك: أنَّه يقول: '' إن هناك كتاباً هندوسياً اسم الكتاب بانتجل '' وأنا قد سألت بعض إخواننا الهنود عن كتاب بانتجل، فقالوا: إنَّ الكتاب معروف إلى الآن، وأنَّه مِن كتب الأديان عند الهندوس، وفي إمكانكم أنْ تسألوا إذا كان لكم إخوة، أو ناس في أمريكا -حتى من الهندوس- أنْ تسألوهم عن الكتاب.
يقول البيروني -بعد أن تكلم عن قضية الاتحاد هذه-: '' وإلى مثل هذا إشارات الصوفية في العارف إذا وصل إلى مقام المعرفة؛ فإنَّهم يزعمون - أي: الصوفية - أنَّه يحصل له روحان: قديمة لا يجري عليها تغير، أو اختلاف، بِها يعلم الغيب، ويفعل المعجز! وأخرى بشرية للتغير، والتكوين، ما يبعد عن مثله أقاويل النصارى''.
لاحظ أنَّ البيروني يربط بين كلام الصوفية، وبين أقاويل النصارى، وأنَّهم يقولون: إنَّ العارف له روحان: روح أزليَّة ثابتة، وروح حادثة، وهي التي تعتريها البشرية، أي: كما قال النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام!!
وأنا في إمكاني الآن أنْ أقرأ عليك ما يدل على هذه العقيدة عند الصوفية:
يقول إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة (676هـ) وهو مِن أكبر الطواغيت الصوفية المعبودين حالياً في مصر، وهو وصل عندهم إلى درجة القطبية العظمى -وسنشرح لك إن أمكن ما معنى القطب الأعظم، وما هي خصائصه- كما في ترجمته من طبقات الشعراني : '' قد كنتُ أنا، وأولياء الله تعالى أشياخاً في الأزل، بين يدي قديم الأزل، وبين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الله عز وجل خلقني مِن نور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أي: في الأزل- وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء، فخلعتُ عليهم بيدي -أي: ألبسهم- فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا إبراهيم أنت نقيبٌ عليهم -أي: على الأولياء- ''.
يقول: '' فكنتُ أنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخي عبد القادر -أي: عبد القادر الجيلاني شيخ القادرية- خلفي، وابن الرفاعي -أي: أحمد الرفاعي شيخ الرفاعية- خلف عبد القادر، ثم التفت إليَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا إبراهيم! سر إلى مالك -خازن النيران- وقل له يغلق النيران، وسر إلى رضوان -خازن الجنة- وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أُمر به، وفعل رضوان ما أُمر به!! ''...إلى آخر ما ذكره من الكلام.
نعود إلى البيروني يقول [ص:16]: وإلى طريق بانتجل -هذا الهندي الذي سبق ذكره- ذهبت الصوفية في الاشتغال بالحق، فقالوا: مادمتَ تشير فلستَ بموحدٍ؛ حتى يستولي الحقُّ على إشارتك بإثنائه عنك، فلا يبقى مشيرٌ، ولا إشارةٌ ''. -أي: وحدة الوجود الكاملة-.
ويقول: '' ويوجد في كلامهم ما يدل على القول بالاتحاد؛ كجواب أحدهم عن الحقِّ، وكيف لا أتحقق مَن هو أنا بالإنيَّة، ولا أنا بالأَيْنِيَّة ''.
هذا كلام أحد أئمَّة التصوف سئل عن الله فأجاب بأنه هو يقصد نفسه!
ومن الأدلة التي ذكرها البيروني على قول الحلولية بالحلول قول أبي بكر الشبلي - وهو مِن أئمَّة التصوف - : '' اخلع الكلَّ تصل إلينا بالكلية فتكون ولا تكون إخبارك عنا وفعلك فعلنا '' .
أي: الكلام الذي تقوله هو عنَّا.
'' وكجواب أبي يزيد البسطامي، وقد سُئل: بم نلت ما نلت؟
قال: "إنِّي انسلختُ مِن نفسي، كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها، ثم نظرتُ إلى ذاتي فإذا أنا هو.
وقالوا في قول الله تعالى: ((فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا))[البقرة:73] : إنَّ الأمر بقتل الميت لإحياء الميت: إخبارٌ أنَّ القلب لا يحيا بأنواع المعرفة إلا بإماتة البدن بالاجتهاد، حتى يبقى رسماً لاحقيقة له، وقلبك حقيقة ليس عليه أثر مِن المرسومات.
وقالوا: إنَّ بين العبد وبين الله ألف مقام مِن النُّور والظلمة، وإنَّما اجتهد القوم في قطع الظلمة إلى النُّور، فلمَّا وصلوا إلى مقامات النُّور: لم يكن لهم رجوعٌ '' انتهى كلام البيروني.
وهو يقول: إن هذا الكلام بعينه هو كلام الهنود وهو الذي سار عليه أئمة التصوف.